كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن ابن عباس هو قول لا إله إلا الله ويندرج فيه معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه. أما قوله: {وأقيموا} فليس من باب عطف الطلب على الخبر وإنما التقدير: وقل أقيموا {وجوهكم} أي استقبلوا القبلة واستقيموا وأخلصوا {عند كل مسجد} في كل وقت سجود أو في مكان سجود كأن المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال ابن عباس: المراد أنه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحد إني لا أصلي إلا في مسجد قومي. ثم لما أمر بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر أن المراد به أعمال الصلاة سميت دعاء لأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر، ويمكن أن يقال: الدعاء بمعنى العبادة فيكون كقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] ثم برهن على المعاد ليتحقق الجزاء فقال: {كما بدأكم تعودون} قال الحسن ومجاهد: كما بدأ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئًا كذلك تعودون أحياء. وعن ابن عباس: المراد كما بدأ خلقكم مؤمنًا أو كافرًا تعودون فيبعث المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، فإن من خلقه الله تعالى في أول الأمر للشقاوة يعمل بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته ذلك، ومن خلقه للسعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة. ويؤيد هذا التفسير قوله عقيب ذلك {فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة} وانتصاب {فريقًا} الثاني بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل أو أضل فريقًا حق عليهم الضلالة كقولك زيدًا مررت به. قال القاضي: المعنى فريقًا هدى إلى الجنة والثواب وفريقًا حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيره إذ العبد لا يستحق أن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة. وأجيب بأن قوله: {هدى} و{حق} ماض وحمله على المستقبل خلاف الظاهر، وبأن الهدى إلى الجنة أو الضلال عنها لابد أن يكون محكومًا به في الأزل وخلاف حكمه محال. ثم بيّن ما لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة أعني السبب القريب وإلا فانتهاء الكل إلى مسبب الأسباب فقال: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} فقبلوا دعوتهم دون دعوته ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
ثم بين أن جهلهم مركب لا بسيط فقال: {ويحسبون أنهم مهتدون} وفيه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في أصول الدين بل لابد فيه من القطع واليقين.
ثم لما أمر بالقسط وكان من جملته أمر اللباس والمأكول والمشروب وأيضًا أمر بإقامة الصلاة وكان ستر العورة شرطًا لصحتها فلا جرم قال: {يا بني آدم خذوا زينتكم} عن ابن عباس قال: كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفليها سيورًا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر تقيها من الذباب وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله

وعن طاوس: لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما كان أحدهم يطوف عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد. وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: كانوا يفعلون ذلك تفاؤلًا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. وقال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا ولا يأكلون دسمًا في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله الآية. قال أكثر المفسرين: المراد من الزينة لبس الثياب لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} [النور: 31] يعني الثياب. وأيضًا الزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولأنه يناسب ما تقدم من ذكر اللباس والرياش، ولأن ظاهر الأمر الوجوب وكل ما سوى اللبس غير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملًا بالنص بقدر الإمكان. والسنة فيه أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة. وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية تقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعًا بقي الباقي داخلًا تحت اللفظ. فإذن ستر العورة واجب في الصلاة وإلا فسدت صلاته. قال أصحاب أبي حنيفة: لبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ للزينة فيكفي في صحة الصلاة. وأجيب بأن اللام في قوله: {وأقيموا الصلاة} [البينة: 5] تنصرف إلى المعهود السابق وهو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم قلتم إنه يصلي في الثوب المغسول بماء الورد؟ أما قوله: {وكلوا} أي اللحم والدسم. {واشربوا} فقد قيل إنهما أمر إباحة بالاتفاق فوجب أن يكون أخذ الزينة أيضًا على الإباحة. وأجيب بأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه مع أن الأكل والشرب قد يكونان واجبين. أيضًا في الجملة وهما يشملان جميع المطعومات والمشربات ويتناولان الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل المنفصل. والعقل أيضًا مؤكد لهذا المعنى لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة.
وفي قوله: {ولا تسرفوا} وجهان: الأول أنه يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقدارًا كثيرًا يضره ولا يحتاج إليه. الثاني- وهو قول أبي بكر الأصم- أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتكروا الانتفاع بها. وأيضًا إنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج ما أحله الله تعالى لهم. قال بعض العلماء: إن حمل الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي. وعن ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد صاحب المغازي: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم أبدان وعلم أديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال: النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبًا. قيل: كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها فأنكر ذلك عليهم بقوله: {قل من حرم زينة الله} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي اللباس الساتر للعورة. وقال آخرون: إنها تتناول جميع أنواع الزينة من الملابس والمراكب والحلي وكذا كل ما يستطاب ويستلذ من المآكل والمشارب والنساء والطيب. عن عثمان بن مظعون أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: غلبني حديث النّفس عزمت على أن اختصي فقال: مهلًا يا عثمان فإن خصاء أمتي الصيام. قال: فإن نفسي تحدثني بالترهب فقال: إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلوات. فقال: تحدثني نفسي بالسياحة قال: سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة. فقال: أن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك. فقال: الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم المسكين واليتيم وتعطيه ما فضل من ذلك. فقال: نفسي تحدثني أن أطلق خولة. فقال: أن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله تعالى. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها فقال: إن المسلم إذا غشى أهله وما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولدًا كان له وصيف في الجنة وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كانله شفيعًا ورحمة يوم القيامة. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم.
قال: مهلًا إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب. قال: مهلًا فإن جبريل يأمرني بالطيب غبًا وقال: لا تتركه يوم الجمعة. ثم قال: يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإنه من رغب عن سنتي ومات فليس مني، ولو مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي. واعلم أن كل واقعة تقع فإما أن لا يكون فيها نفع ولا ضر أو يتساوى ضرها ونفعها فوجب الحكم في القسمين ببقاء ما كان على ما كان، وإن كان النفع خالصًا وجب لإطلاق الآية، وإن كان الضرر خالصًا وكان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم، وإن كان النفع راجحًا والضرر مرجوحًا تقابل المثل بالمثل وبقي القدر الزائد نفعًا خالصًا، وإن كان الضرر راجحًا بقي القدر الزائد ضررًا خالصًا وكان تركه نفعًا خالصًا، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة إلا أن نجد نصًا خاصًا في الواقعة فنقضي به تقديمًا للخاص على العام. قال نفاة القياس: لو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقًا لحكمم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضائعًا لأن هذا النص مستقبل به، وإن كان مخالفًا كان ذلك القياس تخصيصًا لعموم هذا النص فيكون مردودًا لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس، فإذن القرن وافٍ بجميع الأحكام الشرعية والله تعالى أعلم. ثم بيّن أن الزنية والطيبات خلقت في الحياة الدنيا لأجل المؤمنين بالأصالة وللكفرة بالتبعية كقوله: {ومن كفر فأمتعه قليلًا} [البقرة: 126] وأما في الآخرة فإنها خالصة لهم فقال: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة} من قرأ بالرفع فلأنه خبر بعد خبر. قال أبو علي: أبو على الخبر {والذين آمنوا} متعلق به والتقدير: هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا {يوم القيامة} وعلى هذا يكون {في الحياة} ظرفًا ل {آمنوا} و{يوم القيامة}
ظرفًا ل {خالصة} فيفهم من ذلك أنها في غير يوم القيامة غير خالصة لهم بل تكون مشوبة برحمة الكفار. وعلى الأول يكون {في الحياة} ظرفًا لمحذوف أي هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة. ومن قرأ بالنصب فعلى الحال وباقي التقدير كما ذكرنا آنفًا {كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} أي لقوم يمكنهم النظر والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية. ثم بين أصول الأفعال المحرمة وحصرها في ستة أنواع لأن الجناية إما على الفروج وأشار إليها بقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وإما أن تكون على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله: {والإثم} وقيل: الفواحش الكبائر والإثم الصغائر.
وقيل: الفواحش كل ما تزايد قبحه وتبالغ، والإثم عام لكل ذنب كأنه خصص أوّلًا ثم عمم. وإما أن تكون الجناية على النفوس والأموال والأعراض وإليهن الإشارة بقوله: {والبغي بغير الحق} ومعنى بغير الحق أن لا يقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لهم فيه حق فحينئذٍ يخرج عن أن يكون بغيًا، وإما أن تكون الجناية على الأديان إما بالطعن في التوحيد وإليه أشارة بقوله: {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا} أي لا سلطان حتى ينزل وإما بالافتراء على الله وذلك قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} فإن قيل: الفاحشة وغيرها هي التي نهى الله تعالى عنها فيصير تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهذا كلام خالٍ عن الفائدة. فالجواب أن كون الفعل فاحشة عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه فيزول الإشكال. ثم شدد أمر التكاليف بالآجال المحدودة والأنفاس المعدودة فقال: {ولكل أمة أجل} عن ابن عباس والحسن ومقاتل: معناه أنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين لا يعذبهم قبل ذلك ولا يؤخرهم عنه والمقصود وعيد أهل مكة. وقيل: معناه أن أجل العمر لا يتقدم ولا يتأخر سواء الهالك والمقتول. وأورد على القول الأول أنه ليس لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال. وعلى الثاني أنه كان ينبغي أن يقال: ولكل إنسان أو أحد أجل. ويمكن أن يقال: الأمة هي الجماعة في كل زمان والمعلوم من حالها التفاوت في الآجال فزال السؤال. وليس المراد أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته إلا في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه سبحانه وتعالى عن كونه قادرًا مختارًا أو صيرورته كالموجب لذاته، بل المراد أنه تعالى اختار أن الأمر يقع على هذا الوجه وإنما ذكر الساعة لأن هذا الجزء من الزمان أقل ما يستعمل في تقليل الأوقات عرفًا. والساعة في اصطلاح أهل النجوم جزء من أربعة وعشرين جزءًا من يوم بليلته. قيل: إن عند حضور الأجل يمتنع عقلًا وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم فما معنى قوله: {ولا يستقدمون}؟ وأجيب بأن مجيء الأجل محمول على قرب حضور الأجل كقوله العرب: جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك الوقت تارة والتأخر عنه أخرى. اهـ.